
أحيت البوسنة ذكرى ثلاثين عاماً على مجزرة سريبرينيتسا التي كانت من أفظع فصول حرب البوسنة وكانت أسوأ مجزرة أوروبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. في تلك المجزرة قامت القوات الصربية بقتل ما قد يصل إلى 8000 من الأطفال والرجال بالإضافة للاعتداء الجنسي على آلاف الفتيات والنساء. هذه الذكرى مهمة اليوم ليس لمجرد التذكر ولا لمجرد الوفاء للضحايا ولكن لسبب آخر أهم: أن الحروب البلقانية قد تتكرر عما قريب!
هذه الذكرى يجب أن تستعمل لدق ناقوس الخطر لما قد يحصل لمسلمي البلقان إذا عادت الصراعات في تلك المنطقة المشحونة بالتوترات التي لم تحل أبداً بشكل كامل، وفي هذا المقال سنتناول جيوبوليتيكا البلقان وسأوضح الجوانب التي قل أن نسمع عنها في الإعلام العربي
أساسيات لفهم الأزمة:
أول ما يجب أن نتذكره بخصوص سريبرينيتسا هو موقعها، فالبلدة المنكوبة تقع في دولة البوسنة والهرسك في إقليم يسمى “جمهورية صربسكا” ذو أغلبية صربية، في الحقيقة المنفذ الرئيسي للمجزرة كانوا من صرب البوسنة من أهل هذا الإقليم وليس من صرب دولة صربيا نفسها، بل إن سبب الحرب كان رفض القوميين الصرب في صربسكا لاستقلال البوسنة بعد تفكك الاتحاد اليوغوسلافي حيث تمردوا على الاستقلال البوسني وأعلنوا إستقلال إقليمهم كدولة مما أشعل الحرب الدموية.
ثاني ما يجب فهمه هو أن الحرب انتهت عبر اتفاق دايتون الذي أنهى القتال لكنه لم يخلق سلاماً مستداماً، خصوصاً انه خلق نموذجاً رئاسياً غريباً تكون فيه رئاسة الدولة لثلاث رؤساء بالتزامن: رئيس من العرقية البوسنية ورئيس من العرقية الصربية ورئيس من العرقية الكرواتية، وبسبب هشاشة الوضع تم إنشاء آليات دولية لمتابعة إرساء السلام وضمان عدم انتهاك اتفاق دايتون. كل هذه الظروف أدت في النهاية للإعتراف بدولة البوسنة والهرسك المكونة من اقليمين رئيسيين: الإقليم الأول هو البوسنة والهرسك والثاني هو جمهورية صربسكا، فصارت الدولة مقسومة لقسمين بينهما الكثير من التباين.
ثالثاً: ما هو هذا التباين؟ جمهورية صربسكا ذات أغلبية صربية وينتشر فيها ليس فقط العداء لمسلمي البوسنة (البوشناق) وإنما ينتشر بها أيضاً إنكار المجازر التي ارتكبت ضد المسلمين والإحتفال بمرتكبيها وتمجيدهم علناً في تحدي للقانون البوسني الذي يجرم ذلك والدعوة جهاراً للإنفصال. المشكلة كبيرة ومزمنة لكنها ليست مجتمعية فقط بل سياسية حيث يتزايد التوتر بين حكومة الإقليم وبين الحكومة البوسنية في العاصمة سراييفو، فالبوسنة اليوم تعيش فعلاً أزمة سياسية خطيرة. حيث الدولة منقسمة بين إرادة حكومتها الأساسية وبين حكومة الإقليم الصربي النازعة نحو الانفصال والتي صارت اليوم تتحدى الدولة بشكل جلي.
رابعاً: كيف ازداد التوتر؟ في السنوات الأخيرة تصاعدت النزعة الانفصالية بشكل علني لدى حكومة الإقليم التي يقودها ميلوراد دوديك القريب من حكومة بوتين الروسية ومن حكومة أوربان المجرية. عام 2022 احتفلت حكومة الاقليم بذكرى اعلانهم استقلالهم – وهو الاعلان الذي بدأ الحرب أصلاً – بل وبمسيرة مسلحة بحضور الرئيس دوديك رغم أن المحكمة العليا البوسنية منعت الاحتفال ورغم العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة بسبب هذا التصرف المتهور. كانت حكومة الإقليم تعلن صراحة احتفالها بما هو نقيض الدولة وتشهر التحدي في وجه العاصمة التي إن ردت اشتعلت الأوضاع وإن لم ترد قلت هيبتها وزادت جرأة متطرفي الصرب.
مع تزايد المخالفات الصريحة لوحدة البلاد واتفاقية السلام فرضت عقوبات دولية على جمهورية صربسكا وصار الصدام حاداً بينها وبين الممثل الدولي لعملية السلام في البوسنة والذي أعلن مؤخراً قطع التمويل المخصص لدوديك، فرد دوديك بأنه سيعتقل الممثل الدولي لو دخل صربسكا! لم يعد دوديك وأضرابه يخافون المجتمع الدولي ولا يجاملونه ويبدو أنهم تخلصوا من أي شعور بالعار من جرائم الماضي القريب. ولفهم الصورة بشكل أوضح فإن الكثير من مجرمي الحرب لا يزالوا طلقاء والكثير منهم يتم تمجيده في العلن

الآن وصل التوتر لمرحلة جديدة حين قضت محكمة بوسنية بحبس دوديك لمدة عام وعزله سياسياً لستة أعوام بسبب انتهاكاته المتكرره لكنه نجا من الاعتقال عبر منطق القوة لا غير، حيث أحاط نفسه برجاله المدججين بالسلاح فلم تتمكن القوات الرسمية من إلقاء القبض عليه وآثرت الدولة السلامة وعدم الصدام. هذا تحدي سافر وناجح للدولة، وعودة لمنطق القوة بديلاً عن القانون والمؤسسات، ولم يكتف دوديك بذلك بل أقر قانوناً يمنع مؤسسات الدولة الأمنية والعدلية من العمل في اقليمه إمعاناً في التحدي وتم التصويت لإنشاء قوة شرطة احتياط للإقليم دون موافقة الدولة، كل هذا يعد من أشكال فرض الانفصال بالقوة، علماً أن دوديك الآن بطرد بعض الجهات الحكومية من الإقليم. هذه الجرأة ازدادت لكونهم يعلموا بأن لهم داعمين في صربيا وروسيا والمجر وغيرها، وحين أيدت محكمة الاستئناف البوسنية الحكم الصادر على دوديك هذا الشهر خرج قائلاً أنه سيطلب معونة روسيا.
أخيراً: هذا كله في إقليم صرب البوسنة الذين لديهم امتدادات في دولة صربيا ويحظون بالدعم والتعاطف من قبل الكثيرين في البلقان وخارجها، وهنا نرى كيف أن المنطقة فعلاً برميل بارود. عام 2018 قال رئيس وزراء دولة صربيا أن ما حصل في سربرينيتسيا جريمة لكنه ليس إبادة جماعية، وعام 2019 أدان كبير مدعي المحكمة الدولية قيام اثنين من سياسيي دولة صربيا بإنكار الإبادة ومدح راتكو ملاديتش قائد قوات صرب البوسنة المتهم في مجزرة سربرينيتسا وفي حصار سراييفو. ملاديتش هذا ظل مختفياً عن العدالة إلى عام 2011 حين اعتقل في دولة صربيا وتمت محاكمته وإدانته في المحكمة الدولية الخاصة – جدير بالذك أنه حين قدمت سيدة شهادتها على جرائمه أشار إلى عنقه مهدداً لها بعلامة الذبح وهو داخل المحكمة – ورغم ذلك عام 2018 شارك من سجنه في مقابلة تلفزيونية تمتدحه بكل وقاحة.
ومثلما يوجد قوميون صرب في البوسنة يعملون ضد الدولة ولديهم دعم من الخارج، يوجد قوميون صرب في كوسوفو المسلمة يرفضون الدولة ويتلقون الدعم من الخارج أيضاً، ولا يزال التوتر قائماً هناك ويسهل تفجره حتى أن مسألة بسيطة مثل فرض استخدام لوحات كوسوفية للسيارات على السكان الصرب قد أشعلت أزمة في البلاد أدت لتدخل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والناتو لوقف التصعيد. رئيس وزراء كوسوفو حذر مؤخراً من أن تصرفات دولة صربيا قد تشعل حرباً بلقانية جديدة ووزير الخارجية البريطاني نبه لخطورة الوضع في البلقان الغربي والتمددات الروسية هناك، والحقيقة أن مؤشرات الخطر كثيرة لكن أغلب العالم لا يرى. مرصد الإبادة الجماعية دق ناقوس الخطر وطلب التجهز لإحتمالية تجدد الحرب.
موجات من “الجهاديين” المسيحيين
إذن كما هو واضح هذه المخاطر ليست محصورة داخل حدود البوسنة فقط، بل لها امتدادات واسعة في البلقان. لكي نفهم هذا لابد أن نشير إلى أحد الجوانب المهملة لحروب البلقان وهي أنها ألهمت موجة من “الجهاديين” المسيحيين والغربيين خصوصاً أن الكثير من المتطوعين الأوروبيين قد قدموا للقتال في الحرب لصالح الصرب أو الكروات، وعلى رأسهم متطرفو اليونان الذين انضموا للحرب ويبدو أن بعضهم له صلات بحزب الفجر الذهبي اليوناني المتطرف، ويعتقد أن بعضهم ربما شارك في مجزرة سربريتينسيا. وبالإضافة للمتطوعين، فإن الأدوار – المحتملة منها والمؤكدة – التي لعبتها اليونان على المستوى الرسمي أو الكنسي في حرب البوسنة لم يتم فحصها بشكل جاد في العالم الإسلامي إلى اليوم، ومؤخراً تقاربت بعض الدول العربية بشكل استراتيجي مع اليونان دون أن تفتح هذه الملفات.
بالنسبة للـ”جهاديين” فثمة أمثلة بارزة، فمن السويد خرج جاكي أركلوڤ الذي اعتنق الأفكار النازية وانضم للقتال ضد مسلمي البوسنة واعتقل وحوكم هناك بتهم فظيعة لكن ما لبث أن عاد للسويد. لاحقاً اعتقل هناك بتهمة قتل ضابطي شرطة سويديين ولا يزال في السجن وقد حوكم مرة أخرى على أفعاله في البلقان وأدين، هو الذي وصف قتل المسلمين بأنها متعة شبيهة بالنشوة الجنسية.
ومن النرويج خرج الارهابي أندرس بريڤيك الذي ارتبك المجزرة الشهيرة عام 2011 وقد كتب مراراً عن الإلهام الذي جاءه من حروب البقان وقام بتمجيد رادوفان كراديتش أحد أهم قياديي صرب البوسنة والمدان من قبل المحكمة الدولية الخاصة في جرائم كبرى منها مجزرة سربرينيتسيا. الارهابي الاسترالي برنتون تارانت الذي ارتكب مجزرة المسجدين في نيوزلندا استلهم من حروب البلقان وسوف نلقاه مجدداً في آخر المقال.
الوضع الحرج لمسلمي البلقان:
تيارات اليمين المتطرف في دول البلقان تعادي المسلمين، واليمين المتطرف هناك له أدبياته وتاريخه ورموزه التي نجهل الكثير عنها. نحن ننسى أيضاً أن الدولة العثمانية حكمت أماكن واسعة من البلقان ومنها بلاد اليونان والبلغار والصرب، وبالتالي فالعداء للترك – والمسلمين بالتبعية – متجذر هناك وشكل جزءاً مهماً من الهوية الوطنية ونشؤ الدولة القومية خاصة في اليونان، في الحقيقة حتى شرق تركيا إلى شطر إسطنبول تعتبر كلها جزء من شبه الجزيرة البلقانية وليس غريباً أن بعض متطرفي اليونان يريدون “استعادة” تلك البلاد، بل كان هذا جزءاً من سياسية البلاد في الماضي وسبباً رئيسياً في الحرب اليونانية التركية بعد الحرب العالمية الأولى.
في ضوء هذا السياق نستطيع أن نفهم بشكل أعمق كيف أن إعادة صفة المسجد لآياصوفيا أدى لاعتراض شديد من الحكومة اليونانية ولم قامت الكنائس في اليونان بقرع أجراسها حزناً على القرار، وكذلك نفهم تصريحات رئيس أساقفة الكنيسة الارثوذوكسية اليونانية ضد الإسلام.
بعض أحزاب اليمين المتطرف في البلقان تناهض الرموز الإسلامية مثل المساجد والأذان، كما قام متطرفون بمهاجمة مساجد وأفراد، وفي حادثة مؤلمة قام اثنان من متطرفي اليمين بقتل رجل باكستاني في اليونان. في اليونان يكاد يجمع اليمين هناك على معاداة الإسلام بما فيهم حزب “الفجر الذهبي” وحزب الخلق Dimiourgía وحزب الحل اليوناني الذي يعلق رئيسه صورة لسقوط إسطنبول في مكتبه ويشير إليها على أنها تصور صدام الحضارة المسيحية مع الحضارة الإسلامية.
الصور والرموز والشعارات مخزن متفجرات محتمل في البلقان – ضد المسلمين أو ضد غيرهم – ومنها التحية النازية التي أداها المغني الكرواتي ماركو بيركوفتش في حفلة ضخمة مؤخراً ومثل علامة الصقر مزدوج الرأس التي يؤديها لاعبون ومشجعون ألبان في كرة القدم وسببت عدة مشاكل، ومثل المظاهرات اليونانية ضد عرض مسلسلات تركية تاريخية والتوتر الذي سببه عزف فرق موسيقية في دير ارثوذوكسي سابق بتركيا أيضاً، وليس غريباً لو أدت الرمزيات الكثيرة إلى إشعال الفتيل هناك مرة أخرى.
من المناسب هنا تذكر الرمزية العميقة لمعركة كوسوفو 1389 في الوعي القومي الصربي والتي صارت ذكراها عيداً قومياً بارزاً لدى الصرب (عيد الفيدوفان) وفي الذكرى الـ600 للمعركة حضر مئات الآلاف من الصرب خطاب الرئيس سلوبودان ميلوزوفتش الذي قال فيه أننا قد نخوض معارك مسلحة، وهو الخطاب الذي اعتبره البعض ارهاصاً للحروب التي اشتعلت بعدها بقليل والتي شارك فيها ميلوزوفتش ولأجلها تمت محاكمته في المحكمة الدولية الخاصة.
في رمزية أخرى، السفاح الأسترالي منفذ مجزرة المسجدين في نيوزيلندا استخدم في هجومه موسيقى صربية تمجد الحرب على المسلمين وكتب رموزاً عدة على سلاحه منها ما هو مرتبط مباشرة بمعركة كوسوفو، كما كان بيانه المكتوب مليئاً بالتاريخ البلقاني.
الخاتمة: حتى لا تتكرر المأساة
لدينا مؤشرات موضوعية متعددة على أن المسرح البلقاني ضد ينفجر ضد المسلمين وضد غيرهم، الوضع القائم اليوم هو وضع مؤقت وسيكون هناك تحولات كبيرة في المستقبل القريب ومهمتنا أن نستبق التحولات وأن نسعى لحماية الأبرياء وتقليل الأضرار وتعظيم المكاسب، وهذا يتطلب منا وعياً بقضايا مسلمي البلقان بل وقضايا المسلمين عامة حيث واجهوا في الأعوام القليلة الماضية تحديات مصيرية في غزة والهند والصين وميانمار وجمهورية أفريقيا الوسطى، كما يتطلب من حكوماتنا الضغط على القوى الكبرى والمتوسطة التي تدعم اللاعبين الصغار، ويتطلب من حكوماتنا أيضاً الجرأة في دعم حق المسلم في الدفاع عن النفس، والجرأة في توسيع الخيال السياسي وبالتالي توسيع حدود العمل السياسي. لا يمكن القبول بالصمت والاكتفاء بمشاهدة الكارثة وهي تتبلور وتتشكل ثم تنفجر في وجوهنا مرة تلو أخرى.

أضف تعليق